8 دقائق للقراءة 1544 كلمة
بعد سنوات من الدراسة الجامعية، افتتح رأفت عبدالله “27 عاماً” صيدلية في أحد أحياء العاصمة صنعاء كمشروع خاص بمساعدة من الأسرة التي راهنت على تعليمه وتأهيله ليتمكن من النجاة في بيئة فرص العمل فيها غير مجدية إن وجدت.
عوافي/محمد غبسي
رأفت الذي التزم وناضل لإنجاح مشروعه الخاص، لم تواجهه أي صعوبات مهنية في إدارة المشروع، لكنه واجه سباقاً ومنافسة من قبل أربع صيدليات جديدة فتحت أبوابها في نفس الحي، إحداها لا تبعد عنه سوى مائة متر.
في حديث خاص لـ “عوافي”، يؤكد رأفت شعوره باليأس والإحباط نتيجة انتشار الصيدليات بدون دراسات جدوى أو رقابة من قبل الجهات المختصة، ويقول “كلهم يدرسون صيدلة وأهدافهم فتح صيدليات لظنهم بأنها تحقق مكاسب مادية، لكن الواقع بات مزدحم ولم تعد مجدية وأنا الآن أفكر ببيعها والبحث عن فرصة خارج البلاد”.
في سبتمبر من كل عام، تبدأ رحلة جديدة لآلاف الطلاب اليمنيين في عشرات الجامعات، بحثاً عن العلم والمعرفة في شتى التخصصات والعلوم الإنسانية والتطبيقية، غير أن الإقبال على الكليات والتخصصات الطبية هو الأكثر.
الإقبال الكبير على التخصصات الطبية يقابله انهيار شبه تام للقطاع الصحي في بلد يعيش الحرب منذ تسع سنوات، وتعمل الآن 50% فقط من مراكزه الصحية بأجهزة شبه منتهية وكوادر بلا مرتبات أو حوافز في المنشآت الحكومية.
وكما ازدادت الجامعات تكاثرت المستشفيات “الخاصة تحديداً”، غير أنها تعمل بعدد قليل جداً من الأطباء المتخصصين والاستشاريين، والحال أسوأ في المستشفيات الحكومية التي لا مرتبات فيها ولا حوافز تجذب من تبقى من الكوادر الطبية الكفؤة.
وبالرغم من تخرج آلاف الطلاب من الجامعات في شتى محافظات الجمهورية، إلا أنه لا يوجد في المستشفيات سوى 6900 طبيب في 2017، وهو الرقم الذي تراجع الى 6564 في 2019.. بحسب الاستراتيجية الوطنية 2022_2026.
أما بحسب ما أعلن وزير الصحة العامة والسكان في صنعاء، الدكتور طه المتوكل، في منتصف العام 2021، فإن عدد الأطباء والممرضين اليمنيين المتواجدين في الداخل لا يتجاوز 2100 طبيب، و18 ألف ممرض، في الوقت الذي تحتاج اليمن إلى نحو 30 ألف طبيب عام، وأكثر من 100 ألف كادر تمريضي.
كما تحدد معايير منظمة الصحة العالمية حاجة المجتمع “أي مجتمع” إلى 15.3 أطباء لكل 10 آلاف نسمة، و 23 مهنيا صحيا لكل 10 آلاف نسمة كحد أدنى.. وبناءً عليه فإن اليمن يحتاج إلى ما يقارب 53 ألف طبيب كحد أدنى خلال السنوات العشر القادمة، وفقاً للأكاديمي خالد الحسيني.
ورغم تأكيدات الجهات الرسمية بأن الجامعات والكليات تنشأ وفق الشروط المطلوبة، وتعمل تحت إشراف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، إلا أن عددها الكبير يثير الكثير من التساؤلات لدى بعض الأكاديميين والمراقبين، مع ملاحظة أن الجامعات الأهلية المنشأة في العشر السنوات الأخيرة ذات طبيعة طبية.
وعن هذا الواقع يشير الأكاديمي في جامعة ذمار الدكتور عصام واصل إلى أن “الناظر في المخرجات مؤخرًا من هذه الكليات والجامعات والمراكز والمعاهد سيجد أنها قد أغرقت السوق المحلية بالصيادلة والأطباء والمخبريين والفنيين، حتى إن معظم المتخرجين صاروا يعانون من البطالة، وبالنظر إلى هذه المخرجات أيضا نجد أنّ الطلبة ما يزالون يُقبلون على التعليم بكثافة منقطعة النظير، لكن على التخصصات الطبية دون غيرها”.. معتبراً ذلك مؤشراً على أن ثمة حدثا خطيرا يحصل في البلد، ليس على الجامعات الحكومية فقط، بل على المتعلمين أنفسهم، وعلى السوق المحلية التي تتكدس فيها هذه المخرجات الطبية، وعلى مستقبل التعليم برمته.
وفي مقال له بعنوان ” تفريخُ الجامعات الأهلية وتدمير الحكومية ” نشرته منصة “خيوط” يتساءل الدكتور واصل “هل يعد هذا الصنيع إغراقاً للسوق بمخرجات لا يُحتاج إليها بأي شكل من الأشكال؟ وهل يدل ذلك على أنّ ثمة خلقاً غير مبرر للكساد، والبطالة، وتعويماً للوضع التعليمي كلّه؟ وهل يعني ذلك -أيضًا- أن ثمة تدميراً وإخلاءً قسريّاً للسوق من التخصصات الإنسانية المهمة جدّاً؟!”.
وهنا يوضح رئيس مجلس حكماء نقابة ملاك صيدليات المجتمع الدكتور محمد النزيلي أن الكليات التي تربط بين التعليم النظري والعملي ستساهم في حل المشاكل الصحية الموجودة، وستخلق كادراً ملائماً لاحتياجات المجتمع الصحية.
وعن أسباب تركيز الجامعات والكليات على تخصصات بعينها مثل الصيدلة والتمريض، يلفت الدكتور النزيلي إلى نقطة مهمة تتمثل برغبة الأهالي وتوجيههم لأبنائهم في الالتحاق بهذه التخصصات ايماناً منهم بأنها ستدر عليهم المال الوفير بشكل سريع.
وأكد النزيلي في تصريح خاص لـ”عوافي”، بأن الإقبال على تخصصات الصيدلة هذا العام شهد تراجعاً ملحوظاً بسبب التضخم في كادر الصيدلة حيث يوجد حالياً 57 ألف صيدلاني الكثير منهم عاطلين عن العمل بشكل مباشر أو غير مباشر.
وثمة مشكلة أخرى تتمثل في كون الجامعات الأهلية تعتمد على نفس كوادر هيئات التدريس في الجامعات الحكومية وهو أمر مخالف للقانون وفقا للدكتور النزيلي الذي منح التعليم الأهلي أفضلية مؤقتة في المرحلة الحالية باعتبارها توفر لكوادرها مرتبات وحوافز وتضمن حضورهم بشكل مستمر.
وينصح الدكتور النزيلي الأهالي بترك اختيار التخصص الجامعي للإبن ليختار التخصص الذي يناسب شغفه ورغبته ومهاراته بعيداً عن التفكير المسبق للأهالي بالجدوى المالية التي تقود أغلب أبنائها إلى ثلاثة أو أربعة تخصصات طبية دون غيرها.
ونصح النزيلي وزارة التعليم العالي باعتماد “تأكيد الجودة والتعليم المبني على الكفاءة والتدريب” الملائم للعرض، لأنه في حال تم عمل إصدارات وتفعيل لها يمكن بواسطتها تحسين مخرجات الجامعات.
بدوره يلفت أخصائي المختبرات الدكتور عبدالله المقبول إلى أن غالبية الكوادر الماهرة تذهب للقطاع الصحي مباشرة حيث الأجر الجيد والحوافز وإمكانية الكسب سواء في وظيفة أو تأسيس مشروع خاص قد يكون عيادة أو مركزاً صحياً وأحياناً مستشفى.
وحاجة القطاع الصحي للكوادر الكفؤة والماهرة وحاجتهم أيضاً للعائد المالي، يدفع الكليات للتعاقد مع كوادر ذات مستوى تعليمي متواضع، وتسمح لهم بتدريس مواد ليسوا متخصصين فيها ما يفخخ العملية التعليمية برمتها ولا شك أن نتائج هذه الفوضى ستظهر في المستقبل القريب.
كذلك يؤكد عضو المجلس الطبي الأعلى البروفيسور علي الكاف وجود أكثر من أربعين كلية علوم طبية، وأكثر من 40 برنامج صيدلة يلتحق في كل برنامج أكثر من خمسين طالب سنويا.
ومن وجهة نظر البروفيسور الكاف فإن الاعتماد الخارجي هو أهم وأبرز التحديات التي تواجه الجامعات والكليات الطبية اليمنية، لأن عدم اعتماد هذه الجامعات في الخارج يحد من فرص خريجي الجامعات كما يقلل من قيمتها عندما يتزاحم الجميع على الفرص المحدودة في الداخل.
كما أكد الكاف أن واقع التعليم في اليمن من حيث التراخيص والمعايير أصبحت قوية وصارمة ولا تقل شأناً عن المعايير المعمول بها في دول الجوار أو في بقية دول العالم، لافتاً إلى أن الجامعات والكليات الطبية غطت حاجة القطاع الصحي اليمن إلى جانب وجود الكثير من الخريجين يعملون في دول خارجية ومنها أوروبا وأمريكا.
أما التخصصات الطبية التي يتخرج منها كوادر بشكل كبير وزائد عن الحاجة فهي “الطب البشري، الصيدلة، الأسنان، المختبرات، التمريض، والتغذية، والصيدلة السريرية”. وفقا للكاف الذي لفت إلى وجود تخصصات جديدة مثل “تقني تخدير وتقني أشعة ومختص بصريات”.
وبحسب البروفيسور الكاف، لا توجد تخصصات متوقفة أو غير متاحة في اليمن، حيث تم افتتاح تخصصات جديدة في “كلية الطب البيطري وكلية التخدير والأشعة والبصريات، والإدارة الصحية”.. مشيراً إلى حاجة البلاد إلى مخرجات وكوادر تحمل شهادات الدكتوراة في تخصصات هامة مثل “التغذية العلاجية، والصيدلة السريرية، والتمريض”.
كما يرى الأكاديمي بجامعة ذمار الدكتور خالد الحسيني بأن البلد بحاجة إلى زيادة الطاقة الاستيعابية لعدد الطلاب وليس زيادة عدد كليات الطب البشري التي تقابلها زيادة في معايير أخرى كـ “عدد أعضاء هيئة التدريس والمستشفيات الجامعية/ التعليمية.
وصنعاء التي يوجد بها حالياً 14 كلية طب بشري، تكفيها ثلاث كليات فقط إلى جانب كليتي الطب بجامعة صنعاء و21 سبتمبر، بطاقة استيعابية اجمالية تصل إلى 750 طالباً/طالبة (150 طالباً بحد أقصى)،. بحسب الدكتور الحسيني الذي أضاف “يكفي في كل محافظة 2 كلية طب بشري فقط بطاقة استيعابية تصل إلى 300 طالب/طالبة (150 طالباً بحد أقصى) وفي هذه الحالة سنحتاج فقط إلى (23) عضو هيئة تدريس دكتوراة/ماجستير وكذلك (23) عضو هيئة تدريس مساعد لكل جامعة وهذا ما زال ممكن بحسب ظروف اليمن الحالية. على أن يتم زيادة الطاقة الاستيعابية سنويا لهذه الجامعات بمعدل لا يقل عن 25% سنويا بشكل تراكمي لكي نصل إلى نسبة الحد الأدنى لعدد الأطباء في اليمن وفقا لمعايير منظمة الصحة العالمية بحلول 2033م”.
توجد حالياً في العاصمة صنعاء 14 كلية طب بشري، ووفقاً للحسيني فإن انتشار كليات الطب البشري يمثل مشكلة في ايجاد هيئات تدريس لتغطيتها بسبب معايير الاعتماد الأكاديمي الدولي والمحلي التي تجعل تغطيتها صعبة حتى خلال عشر سنوات.
ويقترح الدكتور الحسيني أن توزع الجامعات الأهلية الحالية في صنعاء على محافظات الجمهورية التي ليس فيها كلية طب بشري خاصة، وأن تبقى في صنعاء فقط 3 جامعات خاصة بجانب الحكومية. أو دمج كليات الطب للجامعات الخاصة في صنعاء في ٣ جامعات خاصة فقط وتتوسع أو تنفصل مرحليا.